التدريسية : جمانة جاسم الاسدي
إن الدعاوى القضائية هي احدى الحقوق التي يتمتع بها الافراد بمواجهة من يتعدى على أمنهم وسلامتهم وسمعتهم، او حقوقهم عامة بأي شكل من الاشكال، وهذه الدعاوى هي الوسيلة القانونية المشروعة الصحيحة للمحافظة على السلم والامن المجتمعي، وحماية حقوق افراده، وترفع للقضاء بتوفر طرفي الخصومة، وموضوع الدعوى، بالإضافة الى سلسلة من الاجراءات القضائية الاصولية.
وما موضوع الدعوى الا عبارة عن حق او مصلحة مادية او معنوية تضررت بفعل تصرف مخل، ولكن في بعض الاحيان تسول للأشخاص أنفسهم الضعيفة ان يقوموا برفع دعاوى دون وجه حق او مصلحة مشروعة، وهذه الدعوى تسمى بالكيدية، اي انها بدافع تسبيب زعزعة الامن والاذية او التشهير والاضرار بالسمعة الشخصية.
والكيد في اللغة هو ايقاع المكروه بالغير على وجه المكر والخديعة، وهو مذموم في معظم احواله بين البشر، وقد وردت كلمة الكيد في القران الكريم بواقع 20 مرة بكلمة صريحة و22 مرة من مشتقاتها، كالآية الكريمة رقم 52 من سورة يوسف بقوله تعالى: “ذلك ليعلم اني لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدي كيد الخائنين”، والآية رقم 15 من سورة الطارق: “انهم يكيدون كيدا”، والآية 76 من سورة النساء: “ان كيد الشيطان كان ضعيفا”، والآية 46 من سورة الطور: “يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون”، والآية 98 من سورة الصافات: “فأرادوا به كيداً فجعلناهم الاسفلين”، والآية 60 من سورة طه: “فتولى فرعون فجمع كيده ثم اتى”، …إلخ.
أما الكيد في القانون فقد ورد بعدة مواضع من المنظومة التشريعية العراقية، منها في قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979م، في كل من المادة 25 والمادة 38 والمادة 52، لتشير هذه المواد لحالات الانكار الكيدي والتزوير بدافع الكيد والادعاء الكيدي، وقانون اصلاح النزلاء والمودعين رقم 14 لسنة 2018م ، في المادة 46 التي أشارت بفقرتها الخامسة للشكوى الكيدية، وتعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم 2 لسنة 2014م بمادته السابعة والعاشرة منه ليشير الى الاسباب الكيدية الدافعة لتأخير التوقيع على العقد، …إلخ.
واطراف الدعوى الكيدية عدة اشخاص، الشخص الاول يدعى المدعي، وهو الرافع للدعوى والمدعي بالحق والمصلحة المتضررة زورا، أما الشخص الثاني فيدعى المدعى عليه والمشكو منه المغلوب على امره، وما بينهما شهودا زور غير عدول او رجال تحقيق مرتشين يعلمون بخلفية الدعوى ويستغلون زخم الدعاوى امام القضاء لتمرير مصالحهم الشخصية وايلائها أهمية على المصلحة العامة والامانة الوظيفية.
وما بين التي واللُّتيا، هنالك حقوقا تسوف واعصابا تنهار واموالا تبذخ وذمما تباع وتشترى، وسمعة المدعى عليه او المشكو منه تحت وطأة سندان المدعي الكاذب لتتضرر وتفند، ليفقد الاخير من ماله ووقته وصحته الشيء الكثير، بمقابل ما استحصله المدعي من اهانات وابتزاز وتحريض وتشويه سمعة وغايات حقودة لا تمت للحق بصلة.
وفي خضم الكلام عن الدعوى الكيدية نوجه عناية القارئ الكريم والباحثين الافاضل الى القصور التشريعي الحاصل من قبل المشرع العراقي تجاه الدعوى الكيدية العمالية، فبعد ان بحثنا (في دراسات سابقة) عن الامتيازات التي يحصل عليها العمال عند رفعهم للدعاوى امام القضاء العراقي وفق قانون العمل النافذ رقم 37 لسنة 2015م، وجدنا انه معفي من دفع الرسوم القضائية (المادة 167) ودعواه تسير على وجه الاستعجال بمقابل النظر في الدعاوى الاعتيادية (المادة 166)، وهذا الاعفاء من الرسوم غير مقيد بنتيجة حكم المحكمة، سواءً كان العامل خاسرا فيها او منتصرا لشكواه، وعليه يثور لدينا التساؤل الاتي: ماذا لو كان العامل قد رفع دعوى على صاحب العمل امام محكمة العمل وبعد السير في مرافعات الدعوى اتضح انها كيدية بحق المشكو منه! فهل سيُطالب العامل بدفع الرسوم القضائية بأثر رجعي بعد ان اعفي منها؟ وما هي عقوبة الدعوى العمالية الكيدية؟ وهل من اختصاص محكمة العمل النظر في الدعاوى الجزائية؟
ومن منطلق ان هنالك حقوقا مالية لصاحب العمل تضررت، وفاته من الكسب شيئا مقدر، وخسائر فادحة في السمعة التجارية قد لحقت به، ولربما قد يتأذى في الوسط الاجتماعي ايضا، من خلال الاهانات والمضايقات والتنكيل به والتشهير بأسمه واسم عائلته، فما هو موقف قانون العمل النافذ من هذه الواقعة؟ علما ان العامل ليس طرفا ضعيفا دائما، فقد يكون طرفا مشاغبا او حقودا احيانا.
وبعد التقصي عن المراد وجدنا قلة الزاد، فالمشرع العمالي رمى الكرة في ملعب القواعد العامة، لتطبق محكمة العمل احكام قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969م ونص مادته 243 وقانون اصول محاكمات جزائية رقم 2 لسنة 1999 وذلك في تحريك الدعاوى الجزائية ضد (العامل) الذي اقام الدعوى الكيدية، مع ضرورة اشراك من مرر الدعوى وشهد فيها زورا وابلغ عنها بالعقوبة المناسبة لكل منهم، وتطبيق احكام القواعد العامة في القانون المدني رقم 40 لسنة 1951م وغيره في الدعاوى المدنية، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان محكمة العمل تختص بالنظر في كلا الدعوتين المدنية والجزائية (وفق المادة 166 ق.ع.ع).
ومن هذا المقام ندعو محكمة العمل الى عدم قبول الشكاوى الا من بعد التمحيص فيها بشدة وصرامة والتحقيق يكون من قبل محقق قضائي مختص، والاخذ بشهادة الشهود بعد ان يتم التأكد من انعدام صلة القرابة مع العامل والمصلحة الشخصية من ادلاء الشهادة، كما ونوجه عناية الاخوة في المجال الاعلامي التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية ومديرياتها المنتشرة في المحافظات واجهزتها الرقابية التفتيشية الى اخذ دورها التوعوي والتحذيري من هكذا ممارسات، وان كانت توعية العمال تستوجب التعاون بينهم وبين مجلس القضاء الاعلى او المؤسسات الاكاديمية والبحثية، فليكن ليأخذ الامر صداه.